بسبب قدوم شهر رمضان، قررت ألا أكتب هذا الموضوع على اعتبار أنه "وليه تجيب للناس اكتئاب وإحنا داخلين على شهر مفترج؟!". وهكذا كنت أقاوم نفسي في شراسة حتى قدمت لها رشوة معتبرة -شوب عصير قصب!- فرضيت بالصمت غير مقتنعة. لكن خبرا نشرته جريدة الشرق الأوسط في صدر صفحتها الأولى عدد الخميس 28 أغسطس جعلني أنقض المعاهدة الهشة بيني وبين نفسي لأجدني مدفوعا للكتابة لأن ما حدث ويحدث مفزع بالفعل!
لعلك سمعت بكل تأكيد عن ذلك الأب النمساوي -مشّيها أب مجازا- الذي تم إلقاء القبض عليه في أبريل الماضي عندما اكتشفت الشرطة في بلاده أنه حبس ابنته في قبو أسفل منزله لـ24 سنة كاملة لم يكتفِ فيها بالعذاب الذي صنعه بابنته التي لم ترَ الشمس طوال هذه السنوات بل قام باغتصابها أيضا وأصبح له منها -من بنته يعني!- ثلاثة أبناء. القصة مروعة ومفزعة ومقززة ونشرتها كل صحف الدنيا وكأنها تقدم لقراءها قصة واقعية بطلها داركيولا شخصيا حتى أن الصحف النمساوية كتبت أنها تشعر بالعار من أن هذا الرجل أحد الذين يحملون جنسية بلادهم -وعندهم حق طبعا- واستفزت القصة طبعا كل علماء الطب النفسي وتفاوت تعاملهم معها حتى أن د. "يحيي الرخاوي" -الطبيب النفسي المصري الشهير والمرموق- كتب عن الحادثة بعد أسبوعين من الكشف عنها ولم يكن قد تخلص بعد من كل الأذى الذي لحق به منها فاكتفى بوصف الأب بأنه "متجرد من الصفات الإنسانية" حقيقةً وليس مجازاً. مؤكدا أن الحادثة استثنائية مرعبة ومن الصعب توصيفها أو تحليلها بشكل علمي. ولعله قال هذا بسبب هول الحادثة بالفعل بالإضافة إلى أنها كانت السابقة الأولى التي من الصعب أن تجرى عليها أبحاث علمية وتعميمها.. لكن الأب النمساوي لم يعد وحده في هذه الأرض. والآن فقط أصبح له أشقاء وزملاء في المهمة. والمفزع أن هؤلاء عرب.. ومصريون!
وقت وقوع جريمة هذا الأب النمساوي حمدت الله أنها اكتشفت في بلد أوربي يفترض أنه متحضر؛ لأنها لو كانت وقعت في بلد عربي لقامت الدنيا وهاجت من أجل الحديث عن هؤلاء العرب الهمج الذي يأكلون لحم بعضهم البعض. ومش بعيد كانت الولايات المتحدة ورفاقها قرروا غزو الدول العربية التي ظهر فيه هذا الأب الوحش ليطهروا -البلد مش الأب!- من الوحشية الساكنة فيه، ولينشروا فيه الأمن والسكينة والاستقرار بالضبط مثلما حدث في العراق!
لكن -وكأننا نتعمد أن نأخذ من الغرب "أزفت" ما فيه فعلا- ها هي الأهرام -وهي أعرق جريدة في بلدنا وليست بالطبع من نوع الصحف التي تروج للفتاة التي تحمل وجه قرد وجسد سيد قشطة!- تنشر في صدر صفحتها الأولى الصادرة في 26 أغسطس 2008 قصة مشابهة جدا حتى تحسب أن مخرجا واحدا قد قدمها للجمهور المفزوع في النمسا ثم عاد بعد شهور ليقدمها للجمهور المصري الشقيق!
أما فيلم الرعب المصري فكانت بطلته سيدة اسمها "سكينة" من مركز أبو تشت بقنا -يعني الصعيد.. يعني الرجولة كلها.. يعني أجدع ناس- عندما وجدوها مقيدة بالسلاسل الخاصة بالمواشي في قبو منذ خمس سنوات -يعني أكتر من 1700 يوم- وذلك دون أن ترى النور لمرة واحدة وتنام على حصيرة من القش وتقضي حاجاتها كما القطط.. بالنبش في التراب!. أما من فعل بها كل هذا "الفُجر" -بضم الميم- وهي التي تجاوز عمرها الخمسين عاما فهما شقيقاها من أجل الاستحواذ على ميراثها البالغ -جهز نفسك للمفاجأة- 9 آلاف جنيه فقط! يعني لا مليون ولا نصف مليون ولا حتى عشرة آلاف جنيه يشتروا بيها عربية "خنفسة" موديل 1958!
أمر مرعب طبعا، ويكشف أن مصر صارت -أخيرا- مثل النمسا! ليس في جمال شوارعها أو شياكة مواصلاتها أو هواها العليل وإنما في أفلام الرعب حضرتك! الكارثة أنه بعد ذلك الكشف المصري المريع ظهر كشف عربي مماتل وكأننا اتفقنا ألا نتفق -بينا كعرب- إلا في المصائب والفزع!
البطل هذه المرة كان رجلا وامرأة وضعهما والدهما الفلسطيني الذي يعمل "إمام مسجد بالخليل" في قبو أسفل بيته لمدة عشرين عاما بالتمام والكمال ممارساً نفس الطقوس الشيطانية إياها.. التقييد بالسلاسل وعدم رؤية الشمس والحجة هذه المرة أنهما يعانيان من مرض عقلي وهو ما أكدته التحقيقات فيما بعد. لكن لو كان كل أب يسجن أبناءه المعاقين أو الذين يعانون من خلل أو حتى مزعجين لدرجة كبيرة لربما صار العالم كله بلا أطفال!
حسنا.. هذه نماذج مرعبة ثلاثة.. في ثلاث دول متباينة المستوى الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي أتفقوا معا في علو وسمو الوحشية وتراجع الإنسانية إلى الخلف تماما بل لعلهم كانوا قد دفنوها في القبو الذي وضعوا فيه أقرب الناس إليهم.
دعك من الأسباب المعلنة "شهوة جنسية زائدة لدى الأب النمساوي - الحاجة إلى الفلوس لدى المصريين - التخلص من وجع دماغ المرضى لدى الفلسطيني"، وابحث معي عن الأسباب الكامنة وراء هذه الجرائم التي لم يمارسها "إنسان الكهف"، وتخيل معي كم حالة مماثلة موجودة في بلاد كالنمسا وأخرى كمصر وفلسطين ولم يتم الكشف عنها؟ هل يصلح الحديث عن الآثار السلبية للتكنولوجيا وخلافه؟ هل إيقاع العصر السريع اللاهث الذي يفرم المشاعر والفطرة؟ -كل هذه أفعال ضد الفطرة طبعا-؟ أم أنه القشرة الدينية التي يتدثر بها أغلبنا -لاحظ أن من قام بكارثة الخليل هو إمام مسجد- ليمارس من وراءها ما تخجل منه الشياطين؟ أم كل هذه الأمور معا؟
لا أعرف.. كل أملي فقط ألا تصبح مصر -وفلسطين طبعا- "نمساوية" أكثر مما هي فيه الآن!